محبة الله في الخلق
هناك سؤال دائم في عقولنا عن الخلق، وفي وسط ضيقنا على الاغلب نتساءل لماذا؟ لماذا خلقنا الله؟
– هل خلقنا من اجل لعبة؟ او تسلية؟
– هل نحن المعنيون بالخلق؟
– هل الله يحتاج الى خلقنا؟
لكل سؤال يوجد معضلة ربما لا نقدر ان نجيب عليها كاملاً. ونحن كمؤمنين نجيب إجابات تبدو في بعض الأحيان انها هشة… فالله خلقنا من اجل انه يحبنا، ولكن كيف هذا الحب في ظل الألم والشر؟ وما هو هدف الحياة؟
وسنحاول من خلال كلمة الله ان نجيب بشكل مختصر عن هذه الأسئلة:
1- العلاقة:
كثيرون يتهموا إله المسيحية بانه إله تسلية وغير حقيقي، فمن السخافة ان يخلق الله بشر ويضعهم بسيناريو فيلمي منذ بدء الخليقة وحتى النهاية.
هذه الدراما الإلهية تصب في النهاية الى بهجة الاله وتسليته.
في الحقيقة الاتهام سخيف فكل من يستهين بالخلق او خطة الله هو متمرد على نظام فشل الانسان ان يتعامل معه بشكل قويم، ولم يقدر ان يحافظ على علاقته بالخالق، لذلك زرع الشيطان في البشر فكرة الاستخفاف بخطة الله في التاريخ.
الله منذ البدء أنشأ مع خليقته علاقة، وهي ليست قائمة على المنفعة او نقص في طبيعة الله بل:
– الله الثالوث منذ الازل له علاقة في ذاته، فالآب على علاقة بالابن والروح القدس وبالعكس، والآب يمجد الابن والابن يمجد الآب ” وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.” (يو 17: 5) لاحظ انه يؤكد ان حالة التمجيد المتبادل هي ازلية من قبل كون العالم.
– الله أراد ان يكون هناك علاقة مع البشر تقوم على المحبة العهدية، وان يكون ابنه محور هذه العلاقة، وفي صلاة يسوع المسيح في يو17 يقول ” أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ.” أي ان الثالوث أراد ان يضم ملكوتاً للابن يفيض عليه بمحبته، ويشكله حسب قلبه على صورة ابنه. “وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ.” (يو17: 19)
– أراد الله كما ذكرنا ان تنعكس هذه العلاقة على ملكوته، ففي خلقه للبشر أوصى بتكوين مجتمع -اسرة-ايضاُ على صورة محبته بابنه، ” وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ” (تك1: 28). للأسف فنحن ننظر لعلاقتنا لبعضنا البعض من خلال عيوننا البشرية، وليس من خلال المسيح، ونستغرب من فشل علاقاتنا واسرنا، فنحن نتجاهل العلاقة العهدية القائمة على المحبة الباذلة، والرجاء في المسيح وحده. فعلاقاتنا قائمة على الاخذ، وليس العطاء والبذل.
2- العبادة:
هناك فرق كبير بين كلمة “عبادة” وكلمة “استعباد” فالاستعباد هو فعل الحاكم الآمر، وليس المستعبد. وهو امر مفروض، وليس طوعاُ. اما العبادة فهي فعل العبد عن رضى ومحبة، والله يريد عبادة حيث انه لا يحتاج لاستعباد أحد، فجند السماء مثلا يقدمون المجد لله ليس عن خوف ولكن عن احترام ومهابة ومحبة، ولذلك فالله لا يطلب العبادة من اجل نقص في شخصه، بل من اجل ان نمجده وبُعرف اسمه، لان هذه الحالة هي حالة العدل، ان نضع كل في مكانه.
– ان أساس العبادة وغرضها الأصلي ان نمجد الله عن معرفة وليس عن تصوف او فرض، فالمعرفة هي ما تقربنا لبهاء مجده، وتجعلنا نشتاق الى حضوره، فالعبادة ليست مخدر او مسكن نفسي للإنسان، بل هي تشكيل وتغيير لقلب البشرية الساقط الى صورة الله ومجده، وكلمة الله هي ركن العبادة الأصلي التي بدونها لا نغدر ان نُمجد الله، والحق الكتابي هو ما يقودنا لرحلة التغيير وعمل الله داخلنا.
“إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ.” (هو6: 6)
” لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ،” (كو1: 10)
– مركز العبادة الحقيقية هو يسوع المسيح، لأنه الوحيد الذي قدم المجد للاب بصورة كاملة، وفي الصليب صار المسيح ذبيحة دائمة وقادرة على حمل خطايا الجميع، وأيضا صار رئيس كهنتنا الأعظم الذي يفتح طريقا لنا لعرش الاب دون خوف او شكاية. ” فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ،” (عب10: 19-21)
– نحن نعاني ازدواجية خطيرة في عبادتنا لأننا نجعل منها اما وسيلة او فرض، فهي جزء من حياتنا وليست تبعية كاملة لشخص كما أرادها الله، اما العبادة الحقيقية هي تبعية كاملة، وأسلوب حياة ينموا كل يوم في معرفة الله. العبادة هي تشكيل الله فينا وموتنا عن اركان العالم لنحيا في المسيح وبالمسيح. (كو2: 6-23).
3- العمل:
“وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا.” (تك2: 15)، اعتقد البعض في كنيسة تسالونيكي ان مجيء الرب قريب لذلك لا داعي للعمل، ” فَإِنَّنَا أَيْضًا حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ، أَوْصَيْنَاكُمْ بِهذَا: «أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا». 11 لأَنَّنَا نَسْمَعُ أَنَّ قَوْمًا يَسْلُكُونَ بَيْنَكُمْ بِلاَ تَرْتِيبٍ، لاَ يَشْتَغِلُونَ شَيْئًا بَلْ هُمْ فُضُولِيُّونَ. 12 فَمِثْلُ هؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ.” (2تس 3: 10-12)
وكثيرا ما نقع في خطأ التكاسل عن العمل او بغضه، وهناك فكرة غنوسية شائعة تقول بأن العمل لعنة ولكن ان لاحظنا النص في تك2 سنجد ان وصية الله بالعمل جاءت قبل السقوط فلماذا دعا الله آدم ان يعمل ويحفظ الجنة؟
– أوصى الله آدم ان يعمل لتحسين محيطه، فممارسة سيادته تتطلب النمو وإذا أراد ان يكون قائداً مسئولاُ عليه ان يعمل على تطوير قدراته الحرفية، فقد أراد الله من هذه الوصية ان يكون آدم مبدع، ويستخدم أدوات وامكانيات عقله في إدارة الأرض، وملاحظة رعيته.
– ايضاُ يجب ان نلاحظ ان الله أراد ان يكون آدم مسئول عن توفير ضروريات الحياة، من مأكل ومشرب ومسكن، وان يتبارك الانسان من مجهوده وعمل يديه، فمحبة الله لا تدعو للتكاسل او التواكل بل العمل على مثال الثالوث ” فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». (يو5: 17)
– ومن مقررات العمل ايضاُ، الحفاظ على الأرض من النفايات وكل ما يهاجمها، فسيادة الانسان تتطلب حمايته لمقدرات الأرض.
ولنلاحظ ان كل هذه الأمور تتطلب ان يطور الانسان نفسه في البحث العلمي وتطوير ادواته لخدمة الأرض، فالعمل ليس لعنة بل عنصر من عناصر المحبة ومشابهة الله والشركة في طبيعته.
وفي الختام يجب ان نعلم ان محبة الله ليست إجابة سهلة لحياتنا بل علينا ان نلهج في ناموس الله نهاراُ وليلا، ونعيش الانجيل، ونتعلم من المسيح كيف نُخلي ذواتنا ” الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.” (في 2: 6-8) ونلبس صورته.
فالغرض النهائي من الخلق ان نشابه صورة الابن في كل شيء..
“لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ.” (رو 8: 29)
Comments